أين دفنت مريم العذراء؟
مريم العذراء، تلك الشخصية التي تتسم بالعفة والطهارة، تعد واحدة من أعظم الشخصيات الدينية في التاريخ المسيحي، بل وفي الإسلام أيضاً. كانت والدته، السيدة العذراء مريم، محط إعجاب وتقدير من جميع الأديان السماوية. وقد ارتبطت هذه الشخصية العظيمة بالعديد من الأحداث الدينية التي شكلت مفاهيم العقيدة المسيحية والإسلامية على حد سواء. ولكن رغم ذلك، يبقى السؤال الأهم الذي يشغل العديد من المؤرخين والباحثين حول مكان دفن مريم العذراء، مع اختلاف الآراء والقصص حول هذا الموضوع.
1. الرمزية الدينية لمريم العذراء
قبل التطرق إلى مكان دفن مريم العذراء، يجب أن نفهم أولاً مكانتها في الديانة المسيحية والإسلامية. في المسيحية، يُعتبر ميلاد مريم معجزة بحد ذاته، حيث ولدت دون والد، وهي من أنجبت يسوع المسيح (عليه السلام)، الذي يعتبر في العقيدة المسيحية ابن الله المتجسد، والذي جاء ليخلّص البشرية. أما في الإسلام، فمريم (عليها السلام) هي امرأة طاهرة، اختارها الله لتكون أمًّا لعيسى (عليه السلام)، الذي يعتبر في الإسلام نبياً من أنبياء الله، وقد ورد ذكر مريم في القرآن الكريم في العديد من السور، وجاء في إحدى آياته أنها كانت من النساء الصالحات والطيبات.
2. مريم العذراء في الكتابات المسيحية
بحسب الكتاب المقدس المسيحي، لم تذكر صراحةً مكان دفن مريم العذراء. إلا أن هناك تقاليد شفوية عديدة تشير إلى بعض الأماكن المحتملة. ولكن توجد نظريتان رئيسيتان حول مكان دفن مريم العذراء:
-
النظرية الأولى: الدفن في أفسس
وفقاً للتقاليد المسيحية، تعتبر مدينة أفسس (الواقعة في تركيا الحديثة) أحد الأماكن التي يُعتقد أن مريم العذراء قد انتقلت إليها بعد صلب يسوع. حيث يقال إنها عاشت هناك في آخر أيامها، وهناك العديد من الكنائس والمزارات التي تعود إلى تلك الفترة. يعتقد بعض المؤمنين أن مريم العذراء قد توفيت ودُفنت في مدينة أفسس. ويستند هذا الاعتقاد إلى التقارير التي وردت عن القديس يوحنا الذي رافق مريم العذراء بعد صلب المسيح. هناك كنيسة مشهورة تُسمى “كنيسة مريم العذراء” في أفسس التي يعتقد أن مريم العذراء قد عاشت في منزل قريب منها. ولكن لا يوجد دليل قاطع يؤكد مكان دفنها هناك. -
النظرية الثانية: الدفن في أورشليم
على النقيض من ذلك، هناك تقاليد تشير إلى أن مريم العذراء قد توفيت ودُفنت في مدينة أورشليم (القدس). وفقاً لبعض المصادر المسيحية، فإن مريم قد أُخذت إلى القدس بعد صعود يسوع، حيث قضت هناك أيامها الأخيرة. يُعتقد أن قبر مريم العذراء يقع في منطقة “جبل صهيون” في القدس، وتحديدًا في كنيسة “القبر المقدس” أو “كنيسة مريم العذراء”. تتبع هذه النظرية بعض الطوائف الكاثوليكية والآرثوذكسية. وتوجد في القدس مقبرة يُعتقد أن مريم دفنت فيها، ولكن، كما في حالة أفسس، لا يوجد دليل تاريخي قاطع يثبت صحة هذه الرواية.
3. النظرية الإسلامية: وفاة مريم العذراء ودفنها
في الإسلام، يُعتبر السرد المتعلق بمريم العذراء مختلفًا بعض الشيء. بينما يتفق المسلمون مع المسيحيين على قدسية ومكانة مريم (عليها السلام) إلا أن القرآن الكريم لا يذكر تفاصيل عن وفاتها أو مكان دفنها. لذلك، تُعد الروايات التاريخية والكتب الدينية التي وردت بعد ذلك مصدرًا رئيسيًا لفهم هذا الموضوع في السياق الإسلامي.
في كتابات بعض العلماء المسلمين، يُقال أن مريم العذراء قد توفيت في فلسطين، وأن قبرها يقع بالقرب من قبر ابنها عيسى (عليه السلام). ويرتبط هذا الاعتقاد بمكان يُسمى “مقبرة مريم” في جبل الزيتون، وهو جبل يقع خارج مدينة القدس. يقال إن هذا المكان هو المكان الذي دُفنت فيه مريم العذراء، وهو أيضًا موقع تحيط به العديد من الأساطير والقصص التي تشير إلى قدسيته.
4. الظهور والعلاقة مع الطائفة المسيحية الشرقية
تتمتع الطوائف المسيحية الشرقية، مثل الكنيسة الأرثوذكسية، بتقاليد ومعتقدات خاصة حول مريم العذراء. يشير الكثير من هذه الطوائف إلى ما يُعرف بـ”النوم” أو “الراحة” (باللغة اليونانية: “Koimesis”) لمريم، وهو مصطلح يعبّر عن وفاتها بطريقة سلمية، ولكن دون الإشارة إلى تعرضها للموت كما يحدث للبشر العاديين. يعتقد المؤمنون في هذه الطائفة أن مريم لم تموت بشكل طبيعي تمامًا، بل “نامت” بسلام حتى تم أخذ روحها إلى السماء. ووفقًا لهذه النظريات، يعتبر قبرها مكانًا مقدسًا، ويُعتقد أن قبرها في جبل صهيون في القدس قد شهد “نومها” الأخير قبل أن يتم رفعها إلى السماء.
5. الآثار والمزارات
رغم عدم وجود دليل قاطع يحدد المكان الذي دفنت فيه مريم العذراء، إلا أن العديد من المزارات التاريخية والأماكن المقدسة التي يُقال إنها شهدت حياتها أو وفاتها لا تزال موضع زيارة من قبل المؤمنين. في القدس، هناك كنيسة “النوم” التي يُعتقد أنها شيدت فوق المكان الذي ماتت فيه مريم العذراء. هذه الكنيسة، التي تعد واحدة من أهم المواقع المسيحية في المنطقة، يُقال إنها تقع على جبل صهيون، حيث يعتقد البعض أن مريم قد توفيت أو رقدت بسلام.
أما في أفسس، توجد كنيسة مريم العذراء التي يُعتقد أن مريم قضت آخر أيامها فيها، ويعتبر هذا الموقع أيضًا واحدًا من المواقع المقدسة بالنسبة للمسيحيين. تجذب هذه الأماكن السياح والمصلين من جميع أنحاء العالم الذين يرغبون في زيارة المواقع التي ارتبطت بحياة مريم العذراء.
6. التباين بين الطوائف المسيحية
على الرغم من وجود بعض الإجماع حول الأماكن المحتملة التي قد تكون دفنت فيها مريم العذراء، إلا أن هناك تباينًا بين الطوائف المسيحية حول هذا الموضوع. فعلى سبيل المثال، الكنيسة الكاثوليكية تؤمن بنظرية “النوم” والتكريم الخاص بمريم العذراء، بينما ترى الكنيسة الأرثوذكسية أن مريم قد رُفعت إلى السماء بعد وفاتها، ولا يمكن القول بشكل قاطع إنها دُفنت في مكان معين. هذا التباين في الآراء يعكس تعدد المعتقدات حول هذا الموضوع في المسيحية، والتي لم يتم الفصل فيها بشكل حاسم من قبل الكنيسة بشكل رسمي.
7. الخلاصة
إن مسألة مكان دفن مريم العذراء تعتبر موضوعًا غامضًا، ويختلف المؤمنون حوله بحسب تقاليدهم الدينية. ففي حين يُعتقد أن هناك موقعين رئيسيين يتم تحديدهما على أنهما مكان دفنها – أفسس أو القدس – لا توجد أدلة أثرية واضحة تُؤكد صحة هذه الادعاءات. وبالرغم من هذا الغموض، تظل مريم العذراء شخصية محورية في الديانات السماوية، تُحيط بها هالة من الإكرام والتقدير، ويستمر المؤمنون في زيارة المواقع المقدسة التي ارتبطت بحياتها.
